سلسلة حوارات التنمية : محمد جدري يحلل مسار التنمية في المغرب: العدالة المجالية، التعليم والحكامة

 




انجز هذا الحوار مع الاستاذ محمد جدري، مدير مرصد العمل الحكومي وواحد من المحللين الاقتصاديين المتميزين على الساحة المغربية، حيث قدم رؤى معمقة حول الوضع التنموي للبلاد والتحديات الهيكلية التي تواجه النمو الاقتصادي والاجتماعي، كما سلط الضوء على اهم العوامل التي تعيق تحقيق تنمية متوازنة ومستدامة، ويأتي هذا الحوار في سياق محاولة فهم العلاقة بين السياسات العمومية والفاعلين الاقتصاديين، واستخلاص الدروس الممكنة لتعزيز فعالية التدابير القطاعية وربطها بالأولويات الوطنية الاستراتيجية..

في نظركم، ما هي أبرز العوائق البنيوية التي لا تزال تعرقل تحقيق تنمية اقتصادية متوازنة في المغرب، رغم الاستراتيجيات القطاعية التي تم اعتمادها خلال العقدين الأخيرين؟

رغم اطلاق المغرب خلال العقدين الاخيرين لاستراتيجيات قطاعية طموحة في الفلاحة عبر مخطط المغرب الاخضر ثم الجيل الاخضر وفي الصناعة عبر مخطط التسريع الصناعي وفي الطاقات المتجددة عبر مشروع نور وبرامج الهيدروجين الاخضر اضافة الى مخططات السياحة فان النتائج المحققة ظلت محدودة امام طموح الاقلاع الاقتصادي الشامل ذلك ان العوائق البنيوية المرتبطة بالموارد الطبيعية اصبحت ضاغطة بشكل كبير حيث يشكل الماء والطاقة رهانين استراتيجيين يؤثران في الامن المائي والغذائي وفي استقرار كلفة الانتاج الصناعي وهو ما يضع الاقتصاد امام معادلة صعبة بين الحاجة الى تسريع النمو وضمان استدامة الموارد

ومن جهة اخرى لا تزال العدالة المجالية واحدة من المعضلات الكبرى اذ تتركز الاستثمارات والبنيات التحتية في محاور محددة خاصة الشريط الساحلي من طنجة الى اكادير بينما تعاني جهات اخرى من ضعف جاذبية الاستثمار ونقص التجهيزات وهو ما يكرس الفوارق المجالية والاجتماعية ويحول دون بروز اقطاب جهوية قادرة على خلق قيمة مضافة وادماج الساكنة المحلية في دينامية التنمية كما ان ضعف حكامة السياسات العمومية يعمق هذا الاختلال لغياب التنسيق والتكامل بين الاستراتيجيات القطاعية

اضافة الى ذلك يظل الاقتصاد غير المهيكل يشكل ما يشبه الكتلة الرمادية التي تضعف المردودية الجبائية وتحرم الدولة من موارد اساسية كما يخلق منافسة غير متكافئة ويؤثر في جودة الشغل وحقوق العمال كما ان تفشي الريع والرشوة والفساد يفرمل اي مجهود للاصلاح ويضعف الثقة الضرورية بين المواطن والدولة ويجعل الانجازات القطاعية تبدو متقطعة الاثر لهذا فان التحدي المركزي يكمن في الانتقال من منطق الاستراتيجيات القطاعية المعزولة الى رؤية شمولية تقوم على التكامل المؤسساتي والمجالي وتترجم اهداف النموذج التنموي الجديد الذي يراهن على مضاعفة الناتج الداخلي الخام من 134 مليار دولار سنة 2022 الى اكثر من 260 مليار دولار في افق 2035 مع تعزيز العدالة الاجتماعية والجهوية كشرط اساسي لتحقيق التنمية المستدامة

إلى أي حد يشكل ضعف العدالة المجالية وتفاوت توزيع الاستثمارات بين الجهات أحد أهم أسباب استمرار الفوارق الاجتماعية والمجالية؟

ضعف العدالة المجالية هو احد اهم الاسباب التي تجعل النمو الاقتصادي في المغرب غير متكافئ وغير قادر على تحقيق الاندماج الشامل، فالمراكز الحضرية الكبرى تستقطب اغلب الاستثمارات العمومية والخاصة، وتتوفر على الجامعات والمستشفيات والمناطق الصناعية والطرقات الحديثة، بينما تبقى مناطق واسعة من القرى والجبال والواحات والهوامش في حالة خصاص مزمن، حيث يعاني سكانها من صعوبات في الولوج الى التعليم والصحة وفرص الشغل والخدمات الاساسية، وهو ما ينتج فوارق عميقة في مستوى العيش ويضعف فرص التنمية المحلية.

وقد أكد جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2025 ان مغرب اليوم لا يمكن ان يسير بسرعتين، فهذا التوجيه الملكي يعكس وعيا بضرورة تجاوز النموذج القائم على التمركز المفرط، والانتقال الى مقاربة تقوم على الانصاف الترابي، بحيث تستفيد كل الجهات من نفس دينامية التقدم، ويتحقق توازن بين الساحل والداخل وبين المدن الكبرى والمناطق القروية، لان استمرار هذه الهوة يهدد التماسك الاجتماعي ويعيق بناء الثقة في المؤسسات والسياسات العمومية.

من اجل معالجة هذا الوضع تبرز الحاجة الى جيل جديد من البرامج التنموية الترابية، برامج تضع في قلبها تثمين المؤهلات المحلية لكل جهة، سواء تعلق الامر بالفلاحة او الصناعات التقليدية او السياحة الجبلية او الطاقات المتجددة، كما تقتضي هذه البرامج تقوية اليات التضامن المالي بين الجهات، وتشجيع الاستثمار العمومي والخاص في المناطق الاقل استفادة، مع ضمان حكامة ترابية تشاركية تعطي دورا مركزيا للجماعات الترابية والفاعلين المحليين في تحديد الاولويات ومتابعة التنفيذ.

ان تحقيق العدالة المجالية ليس مطلبا تقنيا فحسب، بل هو رهان وطني يهم استقرار المجتمع ومتانة الشعور بالانتماء الى وطن واحد موحد، فالمغاربة جميعا لهم نفس الحقوق في العيش الكريم، ولا يمكن الحديث عن نموذج تنموي ناجح اذا استمرت الفوارق الحادة بين جهات غنية وجهات مهمشة، لذلك فان المضي نحو مغرب متوازن يتطلب استثمارا شجاعا في الانسان وفي البنيات الاساسية في القرى والمناطق النائية، وضمان تكافؤ الفرص في التعليم والصحة والشغل، فبهذه المقاربة يمكن بناء تنمية عادلة ومستدامة تعيد الثقة وتفتح افاق الامل امام الاجيال القادمة.

هناك من يرى أن إصلاح المنظومة التعليمية والتكوينية هو المدخل الحقيقي للتنمية، فهل تعتبرون أن التعثرات في هذا المجال هي العائق الأكبر أمام إقلاع اقتصادي واجتماعي فعلي؟

 

اصلاح المنظومة التعليمية والتكوينية يعتبر العمود الفقري لاي مشروع تنموي يراد له ان يكون ناجحا، فبدون تعليم جيد قادر على بناء عقول متفتحة ومهارات متجددة، وبدون تكوين مهني ملائم لحاجيات الاقتصاد وسوق الشغل، ستظل كل الاستراتيجيات القطاعية غير مكتملة وتعاني من محدودية في الاثر، لأنها ستفتقد الى العنصر البشري المؤهل الذي يمثل اساس كل نهضة اقتصادية واجتماعية.

ان التحديات الراهنة في التعليم تؤدي الى فجوة واضحة بين الكفاءات التي تفرزها المنظومة وبين المهارات التي يطلبها سوق العمل، وهو ما يفسر ارتفاع معدلات بطالة الشباب وتراجع الانتاجية وضعف تنافسية المقاولة الوطنية، كما ان غياب الجودة والعدالة في المنظومة يكرس التفاوتات الاجتماعية والمجالية، ويضعف فرص الارتقاء الاجتماعي، الامر الذي يجعل المدرسة المغربية في حاجة ماسة الى مراجعة شاملة في المناهج والبرامج وطرق التدريس وحكامة المؤسسات.

غير ان الرهان على التعليم وحده لا يكفي، لان التنمية عملية معقدة ومتشابكة الابعاد، وحتى مع اصلاح المدرسة والتكوين المهني، فان المغرب سيظل يواجه عقبات اخرى كضعف الحكامة وتفشي الريع والفساد واتساع حجم القطاع غير المهيكل، الى جانب الاكراهات المرتبطة بندرة المياه وكلفة الطاقة، وهي عناصر تجعل من الضروري الجمع بين الاصلاح التعليمي والاصلاحات المؤسساتية والاقتصادية الكبرى حتى يتحقق التوازن والنجاعة في المسار التنموي.

ان المدخل الحقيقي للتنمية يكمن في رؤية شمولية تضع التعليم والتكوين في قلبها، ولكنها تربطهما ايضا بتحولات عميقة في الاقتصاد والادارة والمجتمع، فالمطلوب هو بناء انسان متعلم ومنتج ومبدع، يعيش في بيئة توفر له البنيات التحتية والفرص العادلة وفضاء ديمقراطيا يضمن حقوقه، فحينها فقط يمكن للتعليم ان يتحول من مجرد قطاع خدماتي الى رافعة استراتيجية تفتح الطريق امام اقلاع اقتصادي واجتماعي ينسجم مع طموحات المغرب الحديثة.

كيف تقيّمون دور الحكامة المؤسساتية، سواء على مستوى الإدارة أو السياسات العمومية، في تعزيز التنمية أو في تعطيلها؟ وهل تعتقدون أن الإصلاح السياسي ضروري لتجاوز الاختلالات التنموية؟

الحكامة المؤسساتية هي من بين الادوات الاساسية التي تحدد مسار التنمية في اي بلد فهي التي تؤطر العلاقة بين الدولة والمواطن وتضع الاسس التي يبنى عليها القرار العمومي كما انها تضمن حسن تدبير الموارد المادية والبشرية وتحدد الاولويات بشكل عقلاني وفعال وفي الحالة المغربية مازالت الحكامة تعاني من مجموعة من النقائص فالادارة العمومية غالبا ما تتسم ببطء المساطر وتعقد الاجراءات وضعف التنسيق بين القطاعات مما يؤدي الى هدر الوقت والموارد ويضعف قدرة الدولة على الاستجابة السريعة لمتطلبات الاستثمار والابتكار والتشغيل وهذا الواقع لا يؤثر فقط على مناخ الاعمال بل يضعف كذلك ثقة المواطن في المؤسسات حيث يشعر بان القرارات تتخذ ببطء وان تنفيذها لا يلامس حاجياته اليومية

ومن بين الاوجه السلبية التي تعيق مسار الحكامة الجيدة نجد استمرار الرشوة والزبونية والريع وهي ممارسات تفرغ مبدأ تكافؤ الفرص من محتواه وتجعل الكفاءة والجدارة غير كافيتين للحصول على موقع او فرصة كما تكرس الفوارق وتغذي شعورا بالاحباط لدى الشباب والكفاءات الصاعدة فالاقتصاد لا يمكن ان ينمو بشكل عادل اذا ظلت بعض الفئات تستفيد من امتيازات غير مستحقة بينما يتم تهميش فئات اخرى رغم مؤهلاتها وقدرتها على الابداع والمساهمة وهذه الظواهر لا تعطل فقط التنمية الاقتصادية بل تمس ايضا بالتماسك الاجتماعي وبثقة المواطن في مؤسسات الدولة

ازاء هذه التحديات يصبح الاصلاح السياسي والاداري ضرورة لا محيد عنها فهو الكفيل بفتح افاق جديدة امام المشاركة المواطنة وتعزيز مبادئ الشفافية والمحاسبة فالاصلاح يعني اولا تبسيط المساطر الادارية وتوضيح المسؤوليات وتقوية اليات المراقبة ويعني ثانيا اعتماد الرقمنة كأداة رئيسية للرفع من النجاعة وتقليص فرص الفساد كما يعني ثالثا تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة بشكل صارم حتى يشعر كل مسؤول بان موقعه ليس امتيازا بل خدمة عمومية تخضع للتقييم والمساءلة وبهذا الشكل يمكن استعادة ثقة المواطن في الادارة وتعزيز ثقة المستثمر في جدية مؤسسات الدولة

ان التنمية لا تتحقق فقط عبر اطلاق مشاريع اقتصادية او استثمارات في البنيات التحتية بل تتطلب قبل كل شيء بناء مؤسسات قوية وفعالة قادرة على تدبير هذه المشاريع وضمان استدامتها فالمؤسسة التي تعمل بكفاءة وشفافية تعطي اشارة واضحة للمجتمع بان الدولة تسير في الاتجاه الصحيح كما ان وجود حكامة رشيدة يجعل الاقتصاد اكثر تنافسية والمجتمع اكثر ثقة في الديمقراطية لان التنمية في جوهرها ليست مجرد ارقام ومؤشرات بل هي شعور جماعي بالعدالة والانصاف والقدرة على المشاركة الفعلية في بناء المستقبل

 

في ظل التحولات العالمية المرتبطة بالرقمنة والانتقال الطاقي، ما هي التحديات والفرص التي تواجه المغرب، وما هي الشروط الأساسية لضمان إدماج فعلي في الاقتصاد العالمي الجديد بما يخدم التنمية الوطنية؟

الرقمنة والانتقال الطاقي يمثلان معا تحديات كبرى وفرصا استراتيجية امام المغرب في مساره التنموي، ففي مجال الرقمنة يفتح الاقتصاد الرقمي افاقا واسعة لبناء اقتصاد معرفي قادر على خلق وظائف ذات قيمة مضافة عالية وزيادة تنافسية المقاولات الوطنية في السوق العالمية، غير ان هذا الطموح يواجه تحديات بنيوية ترتبط بضرورة تعميم البنية التحتية الرقمية وتوسيع ولوج المواطنين الى خدمات الانترنيت عالية الجودة باسعار مناسبة، كما يفرض تكوينا معمقا للشباب في المهارات المستقبلية مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة وامن المعلومات، حتى يتمكن المغرب من استثمار طاقاته البشرية وتحويلها الى رافعة للابتكار والنمو.

وفي موازاة ذلك يبرز الانتقال الطاقي كخيار استراتيجي لا غنى عنه، فالمغرب يتوفر على امكانات هائلة في مجال الطاقات المتجددة وخاصة الطاقة الشمسية والريحية وهو ما يمنحه فرصة فريدة ليصبح مركزا اقليميا للطاقة النظيفة وقاطرة للاندماج في الاقتصاد الاخضر العالمي، غير ان هذا الانتقال يتطلب معالجة عدة تحديات اساسية على راسها توفير التمويل المستدام للمشاريع الكبرى وتطوير الكفاءات الوطنية القادرة على ادارة التكنولوجيا المتقدمة، الى جانب ضمان عدالة مجالية في توزيع الاستثمارات حتى لا تبقى بعض الجهات محرومة من ثمار الانتقال الطاقي وما يتيحه من فرص للشغل والتنمية.

ولكي ينجح المغرب في الادماج الفعلي داخل الاقتصاد العالمي الجديد الذي يرتكز على الرقمنة والاقتصاد الاخضر، فلا بد من توفير شروط اساسية تتجلى في الاستثمار المكثف في الراسمال البشري والتعليم والتكوين المهني، وتعزيز الحكامة الجيدة والشفافية ومحاربة الريع والفساد، وتشجيع الابتكار وريادة الاعمال في كل القطاعات، مع ضمان الامن المائي والطاقي كدعامة استراتيجية للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، واذا تحقق هذا المسار الشمولي المتكامل فسيكون المغرب قادرا على تحقيق هدفه الاستراتيجي المتمثل في مضاعفة الناتج الداخلي الخام الى اكثر من 260 مليار دولار في افق 2035 وبناء موقع قوي داخل النظام الاقتصادي العالمي الجديد.

أحدث أقدم